|
4
ديسمبر
2024
|
حينما تصلي النوارس !!! بقلم حسين الذكر
نشر منذ 17 ساعة - عدد المشاهدات : 53
|
بعد يقيني بعقدة الأوضاع حد الصبر و دعاء الله أن يكون حاضراً ،
ويشملنا بلطفه ، اتجهت مباشرة نحو جسر السنك كي أعبره مشياً على الأقدام في أغلب
عادتي ، كجزء من استنشاقاتي عبيق بغداد ، تلك الاستنشاقات التي أشعر أنها تتجسد
بفيض دجلة وتموجاته وحياته التي يهبها لنا منذ آلاف السنين ، في بعض الأحيان
تستوقفني مشاهد نهرية كثيرة ، أو تفاعلات شاطئية ، أو انعكاسات تراثية ، فتأخذني
بعيداً للتفكير حد البكاء أحياناً، و لا أدري إن كان ذلك فرحاً أو دمعاً شجيناً
يكون فيه صدى المنولوج نحيباً مثخن الصمت .
هنا وقع نظري على عشرات بل مئات الطيور المحلقة فوق سماء النهر تجوب
فضاءاته وتبحث عن أسراره ، ومن بينها شد انتباهي ذلك الطائر الأبيض رقيق الحال
قصير الساقين ضعيف لدرجة أحسست أنه خلق
للتحليق ؛ إذ لا قدرة له على الحط على أديم الأرض ، فقد كان ساطع اللون عاكساً
الشمس ، باعثاً صور ما يحيط بدجلة وأهلها .
توقفت عند نقطة محددة تربط الإنسان بأخيه الحيوان بعد أن شاهدت امرأة
كبيرة السن تقف على قمة الجسر وترمي حبيبات الخبز التي - على ما يبدو - قطعتها
واختزلتها في بيتها قبل موعدٍ للرمي بها من أعلى الجسر ، وقد تجمعت طيور النوارس
وتكاثفت حول الحبيبات التي تلتقطها ، وهي سابحة في الفضاء ، قبل أن تلتهمها موجات
بطون النهر النابضة منذ علم مجهول .
أعجبتني جداً تلك المرأة
البغدادية الموغلة في الكبر ، وربما متلبسة الحزن بأقصى درجاته واغترابه .
سألتها عما تفعله ، هل هو طقس ديني أم نذر أم تواصل أم عبث أم لهو أم
إحساس بجمال الطبيعة ؟
قبل ذاك توجست أنها لا تجيد لغتي ، أو أنها لا تفهم مقاصدي ، وقد
تسيء الظن، ولا تجيبني عن مغزى وفحوى ما تقوم به ، وجوهر الإجابة ما أبحث عنه ؛ كي
تعزز جمالات المنظر في خاطري وفكري وضميري .
لم تكن تلك الصورة في أيام ربيع العراقيين وتحسن الأحوال الاقتصادية
، بل كانت في عز العسر الاقتصادي ، والشح المالي إثر معاناةٍ لا تنتهي ، وما يعتصر
الناس من تبعاتٍ لا نود الخوض فيها واسترجاعها ؛ كي لا تفسد حلاوة المنظر .
نظرت إلي شزراً ، ثم تجاهلتني كأنها لم تسمع ما أقول ، ولم تعِ مما
طلبت شيئاً ..!!
غابت في تواشيح الهبات التي
تعيشها بنفس عميق ، وتستمتع بها حد الابتهال والدعاء ، وربما مشاركة السماء لها ،
وكأنها تؤدي صلاة النوارس من قمة الجسر ، أو بالأحرى رقبته الممتدة والمعبرة
لملايين الأقدام المارة التي تدوسها كل يوم وحين .
لم أكلمها مرة أخرى ، لم أقطع قداسها ، ولم أعكر صفو معراجها نحو ما
تحب ، وهي تحط بالأرض فيما تنشد السماء ، وفي لحظة عصية الاستحضار ، قد لا تعود
مرة أخرى ، بقيت أراقبها عن بعد مستمتعاً حد الدهشة بما يجري أمامي من مشهد حواري
راقٍ بدت فيه مجامع النوارس راقصة مغنية على أنغامِ مقطوعةِ رميِ حبيبات الخبز ،
وعلى حين غرة التفت إلي قائلة : ( اسمع يا هذا .. إني هنا ، كلما يشتد بين الضيق
أتقرب إلى الله بإطعام هذه النوارس البريئة الطيبة ، فأشعر بسعادة داخلية ،
وارتياح ضمير لا يمكن أن أجده في مكان آخر ، لا سيما حين أسهم ، وأساعد النوارس على
التهام طعامها ، وهي تعبر عن جوعها وحاجتها وسد رمقها ، وكأنها تدعو لي بكل لقمة
وكل قفزة وصرخة .
بصراحة لم تأتِ بجديد ، فقد استنتجت ذلك من صلب المنظر ، وكنت قد
سطرته على وريقاتي المحمولة معي دوماً ، حيث كان النورس صديقاً قديماً ألاحظه
وأكلمه منولوجياً كلما ضاق صدري من قبل ، لم أبق كما كانت تتوقع ، بل شكرتها
وتمنيت لها التوفيق ، ثم أخذت أمضي نحو الشمس تاركاً خلفي جحافل النوارس المحلقة
في سماء بغداد ، قبل غروبه بساعات ، وهي تؤدي رقصة المساء بأوكسترا عجوز على الجسر
.
بينما كنت أهم بالنزول من منحدر الجسر
لاحظت نورساً يحط على عجلة قديمة مثقبة لسيارة قد نقلها الموج من مكان بعيد مجهول
الرحم والظهر ، ولا يحمل شهادة صنع أو مصدر استيراد ، مع أنها لم تصلح لأي شيء آخر
سوى طوق نجاة لنورس - على ما يبدو قد كسرت قدمه - .. فوقفت أتأمله ، وأتمنى القدرة
على مساعدته ، و الغريب أنه كان يراقب المكان من بعيد ، ويستلهم العبرة من فاصلِ
معزوفةِ العجوز ، حتى إن بعض النوارس كانت تمر عليه وتطعمه بطريقة خاصة حينما تحط
جواره ، وترمي شيئاً لم أرَه ، لكني أستشعره كنوع من المساعدات الذاتية لأسرة
النوارس ورحمها ، مع ضعف الحال وانهاك الجسد ، ومد الجناحيين ، إلا أن النورس بدا
قوياً لا يموت - كما يحكى عنه في أمهات بطون الكتب - إذ نعتوه بالحياة والتوالد
الذاتي ، فكلما صورت العدسات غرقه والتهام بطن الحوت إياه ، حلق مرتفعاً من جديد
يصارع الموت فوق صرخات جوع بطن المحيط ؛ ليطير و يندفع بعيداً ، بعيداً جداً عن
أعين المراقبين والمتحدين والمطاردين والصيادين ، كأنه يهزأ بما يخلفون ويتخذون
ويقررون على الشواطئ .. فالكبرياء نعمة لا يفرط بها النورس ، وإن كان جريحاً أو
جائعاً !!