31
ديسمبر
2025
شخصية من بلادي ...السيد محمد محمد صادق الصدر
نشر منذ 2 ساعة - عدد المشاهدات : 152

السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر.... صدى الطف في قلب الزمن وظلال الشهادة

اعداد  / جعفر محيي الدين  /  النجف

وُلد السيد الشهيد السعيد محمد محمد صادق الصدر في النجف الأشرف سنة 1943م، ونشأ في بيت علمٍ وجهاد، فدخل الحوزة العلمية في سنٍ مبكّرة وارتدى الزي الديني وهو في الحادية عشرة من عمره. تَتَلمذ على يد عدد من كبار علماء النجف، من أبرزهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر و على يد والده السيد محمد صادق الصدر، ومحمد تقي الحكيم، ومحمد تقي الإيرواني، فكان علمه منذ بداياته مشبعاً بالعمق والوعي والمسؤولية.

وفي حياته العائلية تزوج السيد الشهيد من بنت عمه العلوية مسرة بنت السيد محمد جعفر الصدر، في بيتٍ ما كان اجتماع نسبٍ فقط، انما امتداداً لمدرسة العلم والجهاد. ورزق بأربعة أبناء وهم السادة مصطفى، و مرتضى، ومؤمل، ومقتدى، وقد تزوج الثلاثة الأوائل منهم من بنات السيد الشهيد محمد باقر الصدر، في مشهدٍ يجسد تلاحم البيوت العلمية الكبرى داخل مدرسة الـ الصدر. كما كانت له ابنتان تزوجتا من ابنَي السيد محمد كلانتر، ليكتمل هذا الامتداد الأسري الذي جمع بين العلم والالتزام والموقف.

عندما نتحدث عن الروابط العائلية ما كانت مجرد صلات قربى، انما كانت انعكاساً لبيئة حملت الهم الرسالي، وهيأت السيد الشهيد لأن يقدم نفسه وأهله في طريقٍ عرف منذ بدايته أنه طريق التضحية، يشبه بمنهجه طريق الحسين في الطف، حيث لا يُفصل البيت عن الموقف، ولا العائلة عن الرسالة.

ثم التحق بـكلية الفقه وتخرج منها عام ١٩٦٢م، فجمعَ بين الدراسة الحوزوية والأكاديمية. ومع تصاعد حضوره العلمي والاجتماعي، تعرض للملاحقة من النظام البائد ، في سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد اشتداد قبضة النظام البعثي، تعرض السيد الصدر إلى الاعتقال أكثر من مرة بسبب قربه من خط المرجعية الرسالية وارتباطه بالشهيد  السيد محمد باقر الصدر، وكذلك بسبب مواقفه غير المنسجمة مع سياسة النظام. دخل على اثرها  السجن في أواخر السبعينيات، وكان اعتقاله ضمن حملة استهدفت عائلة الـ الصدر وطلبتها، خصوصاً بعد تصاعد نشاط الشهيد  السيد محمد باقر الصدر المعارض للنظام. أُطلق سراحه لاحقاً، لكنه بقي تحت المراقبة المشددة والمنع من النشاط العلني لفترة طويلة بسبب مواقفه واستقلاليته ، حتى خرج منه أكثر صلابة، وقد ازدادت قناعته بأن العلم لا قيمة له إن لم يُدفع ثمنه.

ثم درس البحث الخارج عام 1978م، ووسع أبحاثه في الفقه والأصول عام 1990م، رابطاً العلم بالناس والموقف. وفي منتصف التسعينيات تسنم مقاليد المرجعية العلمية بدافع المسؤولية الشرعية وحرصاً على الحوزة من اجل بقائها على الخط الرسالي، وليس في طلباً لمقامٍ، و كان مدركاً أن هذا الطريق يشبه طريق  التضحية الذي سار عليه جده الحسين عليه السلام في الطف، طريقاً يُسلك مع العلم مؤكداً نهايته دماً في سبيل الدين والوطن ، انسجاما مع  قوله تعالى) {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} في حينها كتب مؤلفات عديدة عكست روحه الإصلاحية، منها ما وراء الفقه، فقه الأخلاق، فقه العشائر، وبحث حول صلاة الجمعة، والخ… لتكون مقدمات لمشروع لم يكتمل إلا بالشهادة.

فكانت صلاة الجمعة… الصرخة التي كسرت الصمت ،في التسعينيات عندما كانت البلاد تعيش عزلة وخوفاً وضغطاً سياسياً خانقاً، اتخذ السيد الشهيد قراراً حينها كان في زمانه مخاطرة وجودية ،من اجل إحياء صلاة الجمعة الموحدة.

متجسدًا فيه معنى قوله تعالى {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا} فكانت صلاة الجمعة ، بالنسبة إليه ليست مجردا فريضة انما موقفا ( والكلمة موقف حين تعجز الكلمات).

وحينما جمع الناس في مسجد الكوفة، فبدأت الآلاف تتدفق من كل المدن، حتى تحولت الصلاة إلى بحيرة بشرية تقف في وجه الطغاة بمجرد حضورها.

وكان صوته على المنبر يشبه رجلاً يقرأ الحقيقة من قلب نار هادئ… لكنه يزلزل.

واثق… لكنه يوجع أعداءه..صريح… لكنه لا ينطق كلمة بلا حساب.

ومن فوق المنبر تحدث عن الاستقلال، عن الحرية، عن كرامة الإنسان، وعن عراق لا يباع ولا يهان.

قال ما لا يمكن أن يقال… فصار هدفاً حينما اشتد تأثيره، قرر الظالمون أن يسكتوا الصوت بالدم لكنه كان يعرف أن قتله لن يكون نهاية، انما بداية، وأن الفكرة التي تكتب بالصدق لا توارى  بالجريمة. مضى إلى شهادته ثابتاً، مقدماً نفسه وولديه قرباناً للحق، كما قدم الحسين دمه ليبقى الدين حياً.

وهنا ينقل السيد عامر الحسيني أحد طلبة السيد الولي الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس الله نفسه الزكية) موقفاً يوضح عمق فهمه وهدوء تصديه للإشكالات العلمية في يوم من الأيام كان لي موعد مع السيد الولي الصدر، وذلك لورود بعض الأسئلة والإشكالات التي أوردها شخص قدم من إيران، ونقلها لي أستاذي الشيخ فاضل العمشاني (رحمه الله) وأراد جواباً مني. فذهبت على الموعد للقاء الولي الطاهر وأخبرته بالإشكالات، ومن ضمنها ما قيل عن مؤلفاته، أنهم يزعمون أنها ليست له وإنما للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره).

فابتسم السيد الشهيد الصدر وقال (سبحان الله، كيف تكون للسيد أبو جعفر باقر محمد الصدر ، ويناقش نفسه فيها؟ أنا عندما أناقش الآراء أذكر وأقول قال أحد أساتذتنا وأقصد به السيد أبو جعفر، فكيف يذكر رأيه ويناقشه؟ عموما، حبيبي بيني وبينهم الله تعالى).

ويضيف سيد عامر .. كان هذا الموقف يعكس فهم السيد الشهيد الصدر العميق فالأعداء لا يتحملون علمه ولا استيعاب فهمه، فكانوا يشككون به وبآرائه، لكنه كان بمثابة بابي وأمي للعلماء والفقهاء والعرفاء، رجل يعرف كيف يقف على الحق بهدوء وصبر، ويترك الحساب لله وحده. ولله الحمد، جعلنا الله من اتباعه ومريديه، وبارك في علمه وفعله، فكان مثالا يُحتذى به في الجمع بين العلم والموقف والاخلاص لله.

كما يروي السيد هادي الدنيناوي، وهو من معاصريه، أن الشهيد الصدر رجلاً كبير السن جاء إلى السيد الشهيد يطلب الالتحاق بحوزته، وأقسم عليه بجده رسول الله أن يقبله. فكان جواب السيد صادماً للحاضرين، إذ رفض الطلب لا كرهاً للتعلم وكان انذاك احد شروط القبول في الحوزة هو شرط معين لفئة عمرية محددة، وبهذا كان حرصاً على الحوزة ، مبيناً إن قبول مثل هذه الحالات قد يُستغل لمنح شرعية للنظام السابق لزجّ عناصره داخل الحوزة فكان موقفاً شجاعاً صريحاً، من خلال كشف رفضه القاطع لسياسة النظام، وأثار في القلوب رهبة وإعجاباً بصلابة رجل لا يساوم حتى في أدق التفاصيل.

وهنا  يروي الشيخ جابر الخفاجي، وهو أحد المقربين من السيد الشهيد  الصدر في تلك المرحلة الحساسة، أنه كان حاضراً حين جاء وفد من محافظة الكوت يشكو من احد رجال الدين البارزين انذاك كان يطعن علناً بمرجعية السيد الصدر ويشكك بها من على المنبر. كانت الأجواء مشحونة، والمرحلة لا تحتمل التردد وكان الجميع ينتظر رداً قد يحمل تصعيداً أو دفاعاً مباشراً.

لكن السيد الشهيد أجاب بهدوء عميق وثبات لافت، موضحاً بانه نهض بأعباء المرجعية في مرحلة عصيبة، مدركاً ثقلها ومسؤوليتها وما كان طلباً لمقام ولا بحثاً عن اسم انما حرصاً حقيقياً على الحوزة في زمنٍ مضطرب، وزمن كانت فيه السلطة تحاول تطويع الدين أو تفريغه من مضمونه.

تجسيدا لقوله تعالى {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} .

وأكد الشهيد الصدر أن المرجعية عنده واجب كفائي على المجتهدين، وأنه لو وجد من يطمأن له القلب وأقدر على مواجهة اساليب الشيطان الاكبر الممتدة للعراق كما واجهها السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس) لبقي في بيته بعيداً عن كل هذا الثقل فكان الموقف يكشف مسؤوليته التاريخية وحرصه على استقلال المؤسسة الدينية .

ومن مواقفه التي تكشف عمق أخلاقه وبصيرته ..ينقل لنا الشيخ مهند الغراوي، أحد طلبته انذاك، حينما تصاعدت أصوات مشوهة تطعن به من على بعض المنابر المسيرة. اشتعلت الغيرة في نفوس الطلبة، ورأوا أن السكوت ضعف، فطلبوا الإذن بالرد. لكن السيد الصدر اختصر كل ذلك بكلمة خرجت من قلبٍ واثق ( الشبهة على المخلص رفعة). فما كانت هذه الحكمة تراجعاً ولا خوفاً، انما كانت موقفاً أعلى من السجال، وتربية عملية على أن الحق لا يُدافع عنه بالصراخ، انما بالثبات. فكان يعلم أن الباطل كلما عجز عن المواجهة لجأ للتشويه، وأن المخلص إذا صبر ارتفع، وإذا ثبت انكشف خصمه من تلقاء نفسه، دون أن ينحدر إلى مستواه.

وهنا يثبت لنا  الرأي ، عاش السيد الشهيد مقاتلاً بالكلمة، واستُشهد واقفاً، وبقي حياً في وعي وضمير الأمة، وفكرته ماضية لا تنطفئ.

وهنا نتوقف عند هذه السيرة الوضاءة لرجل مثل السيد محمد محمد صادق الصدر الذي لبس الكفن واستعد للشهادة ،  حتى يسجل له التاريخ باحرف من نور ويخلده ،  بان في العراق رجال افذاذ ومنهم الـ الصدر.

 

 


صور مرفقة






أخبار متعلقة
تابعنا على الفيس بوك
استطلاع رأى

عدد الأصوات : 0

أخبار